عثمان بن عفان.. هابيل الصحابة:
حدثت فتنة في عهد سيدنا عثمان - هذا الرجل الذي يقول عنه النبي: "...رجل تستحي منه الملائكة"- مَن أراقوا دمه لم يستحوا!
أرسل سيدنا عثمان خطابًا لكل المدن يقول لهم:
"لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، والله لا تطلبوا مني شيئًا أحققه لكم ليس فيه معصية لله إلا أجبتكم فيه"، فلم يردوا، فأرسل لهم خطابًا آخر قبيل الحج:
"من كانت له عندي مظلمة فليأتني أعطيه الحق مني أو من عمالي (أولادي) وعلي أجرته ذهابًا وعودة، ولا يخشى الشحناء، فهي ليست من طبعي"، فلم يردوا عليه.
وتحرك 3 الآف ليحاصروا المدينة، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب والزبير وطلحة وقالوا له:
"يا أمير المؤمنين، إما أن تلبس لبس الإحرام وتخرج محرمًا فلا يقتلوك، وإما أن تخرج من المدينة إلى الشام، وإما أن تأمرنا فنقاتلهم".
فقال لهم: "لا والله، أما لبس الإحرام فلا ينفع فهم يروني من الضلال فلن يتورعوا أن يقتلوني، وأما الخروج إلى الشام، أأهرب وأترك مدينة رسول الله؟! (أرأيتم أنه ليس بضعيف ولا سلبي؟) وأما القتل، فقال: أنا أقاتل في مدينة رسول الله؟! والله إن الفتنة دائرة دائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، فليمت عثمان ولا يُراق دمٌ في المدينة.
فقال عليّ: لقد فعلت جهدي.
فدخل عليه سيدنا أبو هريرة ممسكًا لسيفه، فقال عثمان: لما جئت؟
قال: جئت لأنصرك.
فقال سيدنا عثمان: اغمد سيفك، أتحب أن يُقتل الناس في مدينة رسول الله؟!
قال: لا.
قال: أعلمت أنه من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعًا؟!
قال أبو هريرة: وأنت؟
قال عثمان: وأنا يكفيني قول ابن آدم "لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ..."، ثم قال عثمان لأبي هريرة: لقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان لك الجنة على المصيبة تصيبك"، فقال عثمان: وها أنا أصبر.
قبيل اغتياله- كان الذين يريدون الفتنة قد حاصروا سيدنا عثمان في بيته- رأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: جوَّعوك يا عثمان؟ أشعروك بالجوع يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: عطَّشوك يا عثمان؟ أشعروك بالعطش يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حاصروك يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصبر الليلة وتصوم غدًا وتبيت عندنا غدًا وتفطر عندي أنا وأبي بكر وعمر؟
فقال عثمان: نعم يا رسول الله! فاستيقظ يضحك. وكان له خادم فقال له: كنت قد شددتُ أذنك من قبل، فأشدد أذني وشُدَّ عليها، فإن قصاص الدنيا أهون من قصاص الآخرة.
قالت له زوجته: سيدخلوا علينا البيت، أأخلع الحجاب لعلهم يستحوا حين يرون شعري ويخرجوا؟ فقال عثمان: والله لئن أُقَطّع قطعًا أهون عليّ من أن تُكشَف خصلة من شعرك. دخلوا عليه البيت، وقطعوه بالسيف وهو يقرأ من القرآن "...فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ..." (البقرة:137).
لحظة القتل:
"فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ" (المائدة:30)
كيف استطاع أن يطوع نفسه لقتل أخيه؟ يقول النبي: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء. حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا...".
كيف جاءت له فكرة القتل؟ من الصيد ورؤية الحيوانات وهي تُقتل، ولكن الحيوانات لا تقتل من جنسها فلا يقتل الأسد أسدًا آخر.
جاء إبليس لقابيل، وجاء بدابة وحجر وظل يضربها بالحجر في رأسها حتى ماتت لكي يعلمه كيفية القتل، فأخذ قابيل الحجر وهجم على أخيه يضربه على رأسه حتى أدمت رأس هابيل فندم قابيل.
في إحصائية بين المسجونين في جرائم القتل، سُئلوا: ما هو أول إحساس تشعر به عند رؤية القتيل والدم؟ قالوا: الندم. عندها يضحك الشيطان "...إنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ"(الحشر:16). ماذا خسر قابيل؟ خسر آخرته، فكل من قُتلوا ظلمًا في ميزان سيئاته إلى يوم القيامة. فهو أول من قتل في البشرية، تخيلوا الذنوب؟ تخيلوا أنه يحمل وزر كل من مات في الحروب ظلمًا؟ إياك وأن تكون أول من سنَّ سنة سيئة فتحمل أوزار كل من فعلها بعدك. إياكِ أن تكوني أول من خانت زوجها. إياك أن تكوني أول من تزوجت عرفيًّا في عائلتك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك بأنه أول من سن القتل".
خسر أخاه، واليد التي كانت تصلح معه، خسر أباه، ولم يتزوج فخسر الزواج، خسر الأمان. لقد كنت ذات مرة في الولايات المتحدة فزرت قصرًا عظيمًا به ستمائة غرفة، فعلمت أن صاحبته كانت تعيش وقت الحرب الأهلية في أمريكا وكان زوجها يبيع السلاح للطرفين فأصابها مرض الرعب – لأنها فقدت الأمان- فكانت تنام كل يوم في غرفة مختلفة لأنها كانت تعتقد أن أرواح القتلى ستأتي إليها فتقتلها، وقد ماتت في النهاية على فراشها ولكنها خسرت الأمان.
لقد خلق الله الدنيا لك أنتَ:
قال الله: "...إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" (البقرة:30)؛ لأنه مثلما هناك قتلة ومفسدون، فهناك هابيل وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، وهناك المصلحون. فكأنما خلق الله الأرض للمصلحين. فأنت إذا كنت ممن يصلحون في الأرض ويفعلون الخير فأنت من خلق الله الدنيا لك!
قتله ولم يدرِ ماذا يفعل بالجثة؟ لم يعلم الدفن حينئذ، فظل يبحث ماذا يفعل بالجثة؛ لأن معه أول جثة في البشرية. وبدأت رائحة الجثة تتغير، وبدأت الوحوش والطيور تحوم. أتعلمون أن من رحمة الله أن الجثة يتغير شكلها ورائحتها ولونها بعد الموت؟ لأنه إذا لم تكن تتغير، كان الناس ستحتفظ بها كنوع من الوفاء وكنا سنحيا حياة كلها كآبة. علمنا الله من الغراب الدفن لكي ننسى ونعيش حياتنا ونقابل موتانا في الجنة بإذن الله. يقول الله: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا ويْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" (المائدة:31). ولكنه ليس ندم توبة، بل ندم عجز لأنه لا يعلم نهايته، قتل أخيه ولا يعلم ماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ إياك وأن تفعل شيئًا لا تعلم عاقبته.
هرب قابيل وخسر آدم وحواء ابنيهما. هل تستطيع أن تتخيل إحساسهما؟ سل أُمًّا عراقية فقدت ابنها على يد أخ له، سل أُمًّا فلسطينية فقدت ابنًا لها على يد فلسطيني، وليس على يد عدو له. لنذهب إلى سوريا مهد الحضارة عند جبل "قاسيون" الذي يحتوي – أغلب الظن- على قبر هابيل. قبر الخير، قبر من كان يؤمن بصلة الرحم لا بقطعها، قبر من كان يحب الحق والعمران وليس الظلم والفساد.
ولكن النهاية ليست تعيسة بل هي سعيدة، لنرفع من روحنا المعنوية؛ هذه القصة أتت لنا بأول شهيد؛ هابيل، وعوّض الله على آدم وحواء بابن آخر الذي نحن من ذريته اسمه شيت، والذي أصبح نبيًّا، وأيضًا جاء إدريس عليه السلام من ذرية آدم. فرزق الله آدم شهيدًا ونبيين.
"واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) ورَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ..." (مريم: 56-58).
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..." (المائدة:32).
أي أنه من أجل الحفاظ على البشرية، وكرامة الإنسان يا أهل العراق، يا أهل لبنان، لكي لا تحدث فوضى هذه هي القاعدة القرآنية. يوجه الله تعالى الحوار للذين يريدون الفتنة والعنف والقتل أنه من حق الناس أن تعترض بإيجابية وليس بفوضى تؤدي إلى القتل.